كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هنا تجيء اللمسة الأخرى. اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية!
{أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}.
فالموت حتم في موعده المقدر. ولا علاقة له بالحرب والسلم. ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته. ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده.
هذا أمر وذاك أمر؛ ولا علاقة بينهما.. إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل. بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد.. وليست هنالك علاقة أخرى.. ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال. ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال!
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر.
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية.. فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر. وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف. وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة.. ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر.. إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع، وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله.. وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب- رغم كل استعداد واحتياط- أمر آخر يجب أن يطاع؛ وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله.
توازن واعتدال. وإلمام بجميع الأطراف. وتناسق بين جميع الأطراف.
هذا هو الإسلام. وهذا هو منهج التربية الإسلامي، للأفراد والجماعات.
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين. ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها.. هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل، ولا وقفة تنبئ بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى.. ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله. فمال هؤلاء القول لا يكادون يفقهون حديثًا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولًا. وكفى بالله شهيدًا. من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا}.
إن الذين يقولون هذا القول، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله، وما يصيبهم من الضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل فيهم وجوه:
الوجه الأول: أنهم يتطيرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيظنونه- حاشاه- شؤمًا عليهم. يأتيهم السوء من قبله. فإن أجدبت السنة، ولم تنسل الماشية، أو إذا أصيبوا في موقعة؛ تطيروا بالرسول صلى الله عليه وسلم فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله!
الوجه الثاني: أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم تخلصًا من التكاليف التي يأمرهم بها. وقد يكون تكليف القتال منها- أو أخصها- فبدلًا من أن يقولوا: إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر! ويقولون: إن الخير يأتيهم من الله، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أوامره. وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر!
والوجه الثالث: هو سوء التصور فعلًا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله. وطبيعة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى.
وهذا الوجه الثالث- إذا صح- ربما يكون قابلًا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. ويقولون: {ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب}.. غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى.. تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها. وهذا الوجه الثالث منها.
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات، هي جانب من قضية كبيرة.. القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم «قضية القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار».
وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس؛ ثم في الرد عليهم، وتصحيح تصورهم. والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض.. فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم:
{وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عندالله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا}.
إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس. فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا. ولكن تحقق الفعل- أي فعل- لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر.
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة، وإيقاعها بهم، للرسول صلى الله عليه وسلم وهو بشر منهم مخلوق مثلهم- نسبة غير حقيقية؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع.
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير. ولكن تحقق الخير فعلًا يتم بإرادة الله وقدره. لأنه ليست هناك قدرة- غير قدرة الله- تنشئ الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع. وإذن يكون تحقق الخير- بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده- عملًا من أعمال القدرة الإلهية.
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلًا، ووجوده أصلًا، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله. لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله.
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله.. وهذا ما تقرره الآية الأولى.
أما الآية الثانية: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك...}
فإنها تقرر حقيقة أخرى. ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى.. إنها في واد آخر.. والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله سبحانه قد سن منهجًا، وشرع طريقًا، ودل على الخير، وحذر من الشر. فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر.. فإن الله يعينه على الهدى كما قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. ويظفر الإنسان بالحسنة.. ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبًا.. إنما هي الحسنة فعلًا في ميزان الله تعالى.. وتكون من عند الله. لأن الله هو الذي سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر.. وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه، ولا يسلك طريقه الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دله عليه، ولا يحذر الشر الذي حذره منه.
حينئذ تصيبه السيئة. السيئة الحقيقية. سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا.. ويكون هذا من عند نفسه. لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه.
وهذا معنى غير المعنى الأول، ومجال غير المجال الأول.. كما هو واضح فيما نحسب.
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئًا. وهي أن تحقق الحسنة، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره. لأنه المنشئ لكل ما ينشأ. المحدث لكل ما يحدث. الخالق لكل ما يكون.. أيًا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون.
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وموقف الناس منه، وموقفه من الناس. ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية:
{وأرسلناك للناس رسولًا. وكفى بالله شهيدًا. من يطع الرسول فقد أطاع الله. ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا}.
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة. لا إحداث الخير ولا إحداث السوء. فهذا من أمر الله- كما سلف- والله شهيد على أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لأداء هذه الوظيفة {وكفى بالله شهيدًا}.
وأمُر الناس مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أطاعه فقد أطاع الله. فلا تفرقة بين الله ورسوله. ولا بين قول الله وقول رسوله.. ومن تولى معرضًا مكذبًا فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه. ولم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ليجبره على الهدى، ويكرهه على الدين، وليس موكلًا بحفظه من العصيان والضلال. فهذا ليس داخلًا في وظيفة الرسول؛ ولا داخلًا في قدرة الرسول.
بهذا البيان يصحح تصورهم عن حقيقة ما يقع لهم.. فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيبهم من حسنة أو سيئة- بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله. لأنه لا ينشئ شيئًا ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله.. وما يصيبهم من حسنة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبهم من سيئة حقيقية- في ميزان الله- فهو من عند أنفسهم، لأنه بسبب تنكبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته.
والرسول وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول. لا ينشئ ولا يحدث ولا يخلق. ولا يشارك الله تعالى في خاصية الألوهية هذه: وهي الخلق والإنشاء والإحداث. وهو يبلغ ما جاء به من عند الله، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله. وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول. والرسول ليس مكلفًا أن يحدث الهدى للمعرضين المتولين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولي.
بعد البلاغ والبيان.
حقائق- هكذا- واضحة مريحة، بينة صريحة؛ تبني التصور، وتريح الشعور؛ وتمضي شوطًا مع تعليم الله لهذه الجماعة، وإعدادها لدورها الكبير الخطير.
بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى- في الصف المسلم- أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلًا جديدًا، وفصلًا جديدًا! ومع الحكاية التنفير من الفعلة؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم.. كل ذلك في آيات قليلة، وعبارات معدودة: {ويقولون طاعة. فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلًا. أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف.. قالوا: {طاعة}.. قالوها هكذا جامعة شاملة. طاعة مطلقة. لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف.
أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص، والتصرف الخاص.. ويكون المعنى أن المسلمين يقولون: طاعة. بجملتهم. ولكن طائفة منهم- وهي هذه الطائفة المنافقة- إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا.. وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم. فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال. وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها!
والله سبحانه يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين في الصف. يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر، وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئًا بتآمرها وتبيتها. ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين؛ فلن يذهبوا مفلحين، ولن يذهبوا ناجين، {والله يكتب ما يبيتون}.